فصل: فصـــل في تخطئة من فضل ‏(‏أهل الصفة‏)‏ على العشرة وغيرهم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ فصـل

وأما من قال‏:‏ إن أحدًا من الصحابة أهل الصفة أو غيرهم أو التابعين أو تابعي التابعين قاتل مع الكفار، أو قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه، أو أنهم كانوا يستحلون ذلك، أو أنه يجوز ذلك‏.‏ فهذا ضال غاو؛ بل كافر يجب أن يستتاب من ذلك، فإن تاب وإلا قتل‏.‏ ‏{‏وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 115‏]‏؛ بل كان أهل الصفة وغيرهم كالقراء الذين قنت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على من قتلهم من أعظم الصحابة إيمانًا وجهادًا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ونصرًا للّه ورسوله، كما أخبر اللّه تعالى عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 8‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏‏.‏

وقد غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوات متعددة، وكان القتال منها في تسع مغاز‏:‏ مثل بدر‏.‏ وأحد‏.‏ والخندق‏.‏ وخيبر‏.‏ وحنين‏.‏ وانكسر المسلمون يوم أحد وانهزموا، ثم عادوا يوم حنين، ونصرهم الله ببدر وهم أذلة، وحصروا في الخندق حتى دفع اللّه عنهم أولئك الأعداء، وفي جميع المواطن كان يكون المؤمنون من أهل الصفة وغيرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، لم يقاتلوا مع الكفار قط، وإنما يظن هذا ويقوله من الضلال والمنافقين قسمان‏:‏

‏[‏قسم‏]‏ منافقون‏.‏ وإن أظهروا الإسلام، وكان في بعضهم زهادة وعبادة، يظنون أن إلى اللّه طريقا غير الإيمان بالرسول ومتابعته، وإن من أولياء اللّه من يستغنى عن متابعة الرسول، كاستغناء الخضر عن متابعة موسى‏.‏ وفي هؤلاء من يفضل شيخه أو عالمه أو ملكه على النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إما تفضيلاً مطلقًا، أو في بعض صفات الكمال‏.‏ وهؤلاء منافقون كفار يجب قتلهم بعد قيام الحجة عليهم‏.‏

فإن اللّه تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين‏:‏ إنسهم وجنهم وزهادهم وملوكهم‏.‏ وموسى عليه السلام إنما بعث إلى/ قومه لم يكن مبعوثا إلى الخضر، ولا كان يجب على الخضر اتباعه؛ بل قال له‏:‏ إني على علم من علم اللّه تعالى علمنيه اللّه لا تعلمه، وأنت على علم من علم اللّه علمكه اللّه لا أعلمه‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة‏.‏ وبعثت إلى الناس عامة‏)‏ وقال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 158‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 28‏]‏‏.‏

والقسم الثاني‏:‏ من يشاهد ربوبية اللّه تعالى لعباده التي عمت جميع البرايا، ويظن أن دين اللّه الموافقة للقدر، سواء كان في ذلك عبادة اللّه وحده لا شريك له، أو كان فيه عبادة الأوثان واتخاذ الشركاء والشفعاء من دونه، وسواء كان فيه الإيمان بكتبه ورسله، أو الإعراض عنهم والكفر بهم، وهؤلاء يسوون بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وبين المفسدين في الأرض، وبين المتقين والفجار، ويجعلون المسلمين كالمجرمين، ويجعلون الإيمان والتقوى والعمل الصالح بمنزلة الكفر والفسوق والعصيان، وأهل الجنة كأهل النار، وأولياء اللّه كأعداء الله، وربما جعلوا هـذا من ‏[‏باب الرضــا بالقــضاء‏]‏ وربما جعلوه ‏[‏التوحيد والحقيقة‏]‏ بنـاء على أنه توحيـد الربوبية الذي يقر به المشركون، وأنه ‏[‏الحقيقة الكونية‏]‏‏.‏

/وهؤلاء يعبدون اللّه على حرف‏:‏ فإن أصابهم خير اطمأنوا به، وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم،خسروا الدنيا والآخرة، وغالبهم يتوسعون في ذلك حتى يجعلوا قتال الكفار قتالًا للّه، ويجعلون أعيان الكفار والفجار والأوثان من نفس اللّه وذاته، ويقولون‏:‏ ما في الوجود غيره، ولا سواه، بمعنى أن المخلوق هو الخالق، والمصنوع هو الصانع‏.‏ وقد يقولون‏:‏ ‏{‏لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏ ويقولون‏:‏ ‏{‏أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 47‏]‏‏.‏

إلى نحو ذلك من الأقوال والأفعال التي هي شر من مقالات اليهود والنصارى، بل ومن مقالات المشركين والمجوس، وسائر الكفار، من جنس مقالة فرعون والدجال، ونحوهما ممن ينكر الصانع الخالق البارئ رب العالمين، أو يقولون‏:‏ إنه هو، أو أنه حل فيه‏.‏

وهؤلاء كفار بأصلي الإسلام وهما‏:‏ شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدا رسول الله ‏.‏

فإن التوحيد الواجب أن نعبد اللّه وحده لا نشرك به شيئًا، ولا نجعل له ندا في إلهيته، لا شريكا ولا شفيعا‏.‏ فأما ‏[‏توحيد الربوبية‏]‏ وهو الإقرار بأنه خالق كل شيء، فهذا قد أقر به المشركون الذين قال اللّه فيهم‏:‏ ‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 106‏]‏ قال ابن عباس‏:‏ تسألهم من خلق السموات والأرض‏؟‏ فيقولون‏:‏ / اللّّه، وهم يعبدون غيره‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ‏}‏ ‏[‏ الـزمر‏:‏ 38 ‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 84‏:‏ 89‏]‏‏.‏

فالكفار المشركون مقرون أن اللّه خالق السموات والأرض، وليس في جميع الكفار من جعل للّه شريكا مساويا له في ذاته وصفاته وأفعاله، هذا لم يقله أحد قط، لا من المجوس الثنوية،ولا من أهل التثليث، ولا من الصابئة المشركين الذين يعبدون الكواكب والملائكة،ولا من عباد الأنبياء والصالحين، ولا من عباد التماثيل والقبور وغيرهم؛ فإن جميع هؤلاء - وإن كانوا كفارًا مشركين متنوعين في الشرك - فهم مقرون بالرب الحق الذي ليس له مثل في ذاته وصفاته، وجميع أفعاله؛ ولكنهم مع هذا مشركون به في ألوهيته، بأن يعبدوا معه آلهة أخرى، يتخذونها شفعاء أو شركاء؛ أو في ربوبيته بأن يجعلوا غيره رب بعض الكائنات دونه مع اعترافهم بأنه رب ذلك الرب، وخالق ذلك الخلق‏.‏

وقد أرسل اللّه جميع الرسل، وأنزل جميع الكتب بالتوحيد / الذي هو عبادة اللّه وحده، لا شريك له‏.‏ كما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونَِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏25‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ َ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏45‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏36‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏51، 52‏]‏ ‏.‏

وقد قالت الرسل كلهم مثل نوح وهود وصالح وغيرهم‏:‏ ‏{‏أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏3‏]‏ فكل الرسل دعوا إلى عبادة اللّه وحده لا شريك له، وإلى طاعتهم‏.‏

والإيمان بالرسل، هو ‏[‏الأصل الثاني‏]‏ من أصلي الإسلام، فمن لم يؤمن بأن محمدا رسول اللّه إلى جميع العالمين، وأنه يجب على جميع الخلق متابعته، وإن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه اللّه، والدين ما شرعه، فهو كافر‏:‏ مثل هؤلاء المنافقين ونحوهم ممن يجوز الخروج عن دينه وشرعته وطاعته؛ إما عمومًا وإما خصوصًا‏.‏ ويجوز إعانة الكفار والفجار على إفساد دينه وشرعته‏.‏

/ويحتجون بما يفترونه‏:‏ إن أهل الصفة قاتلوه‏.‏ وإنهم قالوا‏:‏ نحن مع اللّه، من كان اللّه معه كنا معه، يريدون بذلك القـدر و ‏[‏الحقيقة الكونية‏]‏ دون الأمر و ‏[‏الحقيقة الدينية‏]‏ ويحتج بمثل هذا من ينصر الكفار والفجار، ويخفرهم بقلبه وهمته، وتوجهه من ذوي الفقر، ويعتقدون مع هذا أنهم من أولياء اللهّّ، وإن الخروج عن الشريعة المحمدية سائغ لهم، وكل هذا ضلال وباطل‏.‏ وإن كان لأصحابه زهد وعبادة، فهم في العباد مثل أوليائهم من التتار ونحوهم في الأجناد فإن ‏(‏المرء على دين خليله‏)‏ و ‏(‏المرء مع من أحب‏)‏‏.‏ هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جعل اللّه المؤمنين بعضهم أولياء بعض، والكافرين بعضهم أولياء بعض‏.‏

وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المارقين من الإسلام مع عبادتهم العظيمة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم‏.‏ يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية‏.‏ أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرا عند اللّه لمن قتلهم يوم القيامة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد‏)‏ وهؤلاء قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لما خرجوا عن شريعة رسول الله/ صلى الله عليه وسلم وسنته، وفارقوا جماعة المسلمين، فكيف بمن يعتقد أن المؤمنين كانوا يقاتلون النبي صلى الله عليه وسلم ‏؟‏‏!‏

ومثل هذا ما يرويه بعض هؤلاء المفترين‏:‏ أن أهل الصفة سمعوا ما خاطب اللّه به رسوله ليلة المعراج؛ وإن اللّه أمره ألا يعلم به أحدا‏.‏ فلما أصبح وجدهم يتحدثون، فأنكر ذلك، فقال اللّه تعالى‏:‏ ‏(‏أنا أمرتك ألا تعلم به أحدًا؛ لكن أنا الذي أعلمتهم به‏)‏‏.‏

إلى أمثال هذه الأكاذيب التي هي من أعظم الكفر‏.‏ وهي كذب واضح؛ فإن ‏[‏أهل الصفة‏]‏ لم يكونوا إلا بالمدينة؛ لم يكن بمكة أهل صفة؛ والمعراج إنما كان من مكة؛ كما قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏1‏]‏‏.‏

ومما يشبه هذا من بعض الوجوه‏:‏ رواية بعضهم عن عمر أنه قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحدث هو أبو بكر وكنت كالزنجي بينهما‏.‏

وهذا من الإفك المختلق‏.‏ ثم أنهم مع هذا يجعلون عمر الذي سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وصديقه، وهو أفضل الخلق بعد الصديق لم يفهم ذلك الكلام، بل كان كالزنجي‏.‏ ويدعون أنهم هم سمعوه وعرفوه ثم كل منهم يفسره بما يدعيه من الضلالات الكفرية التي يزعم أنها ‏[‏علم الأسرار والحقائق‏]‏ ويريدون بذلك إما الاتحاد وإما تعطيل الشرائع ونحو ذلك‏.‏ مثل ما تدعي النصيرية / والإسماعيلية؛ والقرامطة والباطنية الثنوية، والحاكمية وغيرهم، من الضلالات المخالفة لدين الإسلام‏.‏ وما ينسبونه إلى علي بن أبي طالب؛ أو جعفر الصادق أو غيرهما من أهل البيت كالبطاقة والهفت والجدول والجفر وملحمة بن عنضب، وغير ذلك من الأكاذيب المفتراة باتفاق جميع أهل المعرفة، وكل هذا باطل‏.‏

فإنه لما كان لآل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم به اتصال النسب والقرابة، وللأولياء الصالحين منهم ومن غيرهم به اتصال الموالاة والمتابعة، صار كثير ممن يخالف دينه وشريعته وسنته يموه باطله ويزخرفه بما يفتريه على أهل بيته، وأهل موالاته ومتابعته، وصار كثير من الناس يغلو إما في قوم من هؤلاء، أو من هؤلاء، حتى يتخذهم آلهة أو يقدم ما يضاف إليهم على شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، وحتى يخالف كتاب اللّه وسنة رسوله، وما اتفق عليه السلف الطيب من أهل بيته ومن أهل الموالاة له والمتابعة، وهذا كثير في أهل الضلال‏.‏

/ فصـــل

وأما تفضيل ‏[‏أهل الصفة‏]‏ على العشرة وغيرهم فخطأ وضلال، بل خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، كما تواتر ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب موقوفًا ومرفوعا، وكما دل على ذلك الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمة العلم والسنة، وبعدهما عثمان وعلي وكذلك سائر أهل الشورى‏:‏ مثل طلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن ابن عوف، وهؤلاء مع أبي عبيدة بن الجراج ـ أمين هذه الأمة ـ ومع سعيد بن زيد‏.‏

هم العشرة المشهود لهم بالجنة‏.‏

قال اللّه عز وجل في كتابه‏:‏ ‏{‏لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏10‏]‏‏.‏ ففضل اللّه السابقين قبل فتح الحديبية إلى الجهاد بأموالهم وأنفسهم على التابعين بعدهم، وقال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 18‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏100‏]‏ فرضى اللّه سبحانه عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار‏.‏

/وقد ثبت في فضل البدريين ما تميزوا به على غيرهم، وهؤلاء الذين فضلهم اللّه ورسوله‏.‏ فمنهم من هو من أهل الصفة، وأكثرهم لم يكونوا من أهل الصفة، والعشرة لم يكن فيهم من هو من أهل الصفة إلا سعد بن أبي وقاص‏.‏ فقد قيل‏:‏ إنه أقام بالصفة مرة، وأما أكابر المهاجرين والأنصار مثل الخلفاء الأربعة، ومثل سعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير، وعباد بن بشر، وأبي أيوب الأنصاري، ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب ونحوهم، فلم يكونوا من ‏[‏أهل الصفة‏]‏ بل عامة أهل الصفة إنما كانوا من فقراء المهاجرين؛ لأن الأنصار كانوا في ديارهم‏.‏ ولم يكن أحد ينذر لأهل الصفة ولا لغيرهم‏.‏

 فصـــل

وأما سماع المكاء والتصدية‏:‏ وهو الإجتماع لسماع القصائد الربانية، سواء كان بكف، أو بقضيب، أو بدف، أو كان مع ذلك شبابة، فهذا لم يفعله أحد من الصحابة، لا من أهل الصفة ولا من غيرهم؛ بل ولا من التابعين، بل القرون المفضلة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خير القرون الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم‏)‏ لم يكن فيهم أحد يجتمع على هذا السماع، لا في الحجاز ولا في الشام / ولا في اليمن، ولا العراق ولامصر، ولاخراسان ولا المغرب‏.‏ وإنما كان السماع الذي يجتمعون عليه سماع القرآن، وهو الذي كان الصحابة من أهل الصفة وغيرهم يجتمعون عليه، فكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم يقرأ، والباقي يستمعون، وقد روى ‏(‏أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أهل الصفة وفيهم قارئ يقرأ فجلس معهم‏)‏ وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى‏:‏ يا أبا موسى، ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون‏.‏ وكان وجدهم على ذلك، وكذلك إرادة قلوبهم وكل من نقل أنهم كان لهم حاد ينشد القصائد الربانية بصلاح القلوب، أو أنهم لما أنشد بعض القصائد تواجدوا على ذلك‏.‏ أو أنهم مزقوا ثيابهم، أو أن قائلًا أنشدهم‏:‏

قد لسعـت حيـة الهوى كبدي**فلا طبيب لها ولا راقـــي

إلا الطبيب الذي شغفـت بــه**فعنده رقيتي وترياقــــي

أو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال‏:‏ ‏(‏إن الفقراء يدخلون / الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم‏)‏ أنشدوا شعرا وتواجدواعليه، فكل هذا وأمثاله إفك مفترى، وكذب مختلق باتفاق أهل الاتفاق من أهل العلم والإيمان، لا ينازع في ذلك إلاجاهل ضال، وإن كان قد ذكر في بعض الكتب شيء من ذلك فكله كذب باتفاق أهل العلم والإيمان‏.‏

 فصـــل

وأما قوله‏:‏‏{‏وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏28‏]‏ فهي عامة فيمن تناوله هذا الوصف؛ مثل الذين يصلون الفجر والعصر في جماعة، فإنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، سواء كانوا من ‏[‏أهل الصفة‏]‏ أو غيرهم، أمر اللّه نبيه بالصبر مع عباده الصالحين؛ الذين يريدون وجهه، وإلا تعد عيناه عنهم، تريد زينة الحياة الدنيا‏.‏ وهذه الآية في الكهف وهي سورة مكية‏.‏ وكذلك الآية التي في سورة الأنعام‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏52‏]‏‏.‏

/وقد روى أن هاتين الآيتين نزلنا في المؤمنين المستضعفين لما طلب المتكبرون أن يبعدهم النبي صلى الله عليه وسلم عنه فنهاه الله عن طرد من يريد وجه الله وإن كان مستضعفا ثم أمره بالصبر معهم، وكان ذلك قبل الهجرة إلى المدينة وقبل وجود الصفة؛ لكن هي متناولة لكل من كان بهذا الوصف من أهل الصفة وغيرهم‏.‏

والمقصود بذلك أن يكون مع المؤمنين المتقين الذين هم أولياء الله وإن كانوا فقراء ضعفاء، ولا يتقدم أحد عند الله بسلطانه وماله ولا بذله وفقره، وإنما يتقدم عنده بالإيمان والعمل الصالح، فنهى اللّه نبيه أن يطيع أهل الرياسة والمال الذين يريدون إبعاد من كان ضعيفًا أو فقيرًا وأمره ألا يطرد من كان منهم يريد وجهه، وأن يصبر نفسه معهم في الجماعة التي أمر فيها بالاجتماع بهم، كصلاة الفجر والعصر، ولا يطيع أمر الغافلين عن ذكر اللّه المتبعين لأهوائهم‏.‏

 فصـــل

وأما الحديث المروي‏:‏ ‏(‏ما من جماعة يجتمعون إلا وفيهم ولي لله‏)‏ فمن الأكاذيب ليس في شيء من دواوين الإسلام، وكيف والجماعة قد يكونون كفارا أو فساقا يموتون على ذلك‏؟‏‏!‏‏.‏

/ فصـــل

وأولياء اللّه هم ‏{‏الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏63‏]‏ كما ذكر اللّه تعالى في كتابه‏.‏ وهم ‏(‏قسمان‏)‏‏:‏ المقتصدون أصحاب اليمين‏.‏ والمقربون السابقون‏.‏

فولي اللّه ضد عدو اللّه، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏62، 63‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏55، 56‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏1‏]‏، وقال‏:‏‏{‏وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏19‏]‏ وقال‏:‏‏{‏أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏50‏]‏‏.‏

وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏يقول اللّه تعالى‏:‏من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها‏.‏ فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه‏)‏‏.‏

/و‏[‏الولي‏]‏ مشتق من الولاء وهو القرب كما أن العدو من العدو وهو البعد‏.‏ فولي اللّه من والاه بالموافقة له في محبوباته ومرضياته، وتقرب إليه بما أمر به من طاعاته‏.‏ وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح الصنفين المقتصدين من أصحاب اليمين، وهم المتقربون إلى اللّه بالواجبات، والسابقين المقربين وهم المتقربون إليه بالنوافل بعد الواجبات‏.‏

وذكر اللّه الصنفين في ‏[‏سورة فاطر‏]‏ و‏[‏الواقعة‏]‏ و‏[‏الإنسان‏]‏ و‏[‏المطففين‏]‏ وأخبر أن الشراب الذي يروى به المقربون بشربهم إياه صرفًا يمزج لأصحاب اليمين‏.‏

والولي المطلق هو من مات على ذلك‏.‏ فأما إن قام به الإيمان والتقوى وكان في علم اللّه أنه يرتد عن ذلك، فهل يكون في حال إيمانه وتقواه وليا للّه أو يقال‏:‏ لم يكن وليا لله قط لعلم اللّه بعاقبته ‏؟‏ هذا فيه قولان للعلماء‏.‏وكذلك عندهم الإيمان الذي يعقبه الكفر‏:‏ هل هو إيمان صحيح ثم يبطل بمنزلة ما يحبط من الأعمال بعد كماله، أو هو إيمان باطل بمنزلة من أفطر قبل غروب الشمس في صيامه ومن أحدث قبل السلام في صلاته‏.‏ فيه أيضًا قولان‏:‏ للفقهاء والمتكلمين والصوفية‏.‏

والنزاع في ذلك بين أهل السنة والحديث من أصحاب الإمام أحمد/ وغيرهم وكذلك يوجد النزاع فيه بين أصحاب مالك والشافعي وغيرهم‏.‏ لكن أكثر اصحاب أبي حنيفة لا يشترطون سلامة العاقبة، وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد يشترط سلامة العاقبة، وهو قول كثير من متكلمي أهل الحديث‏:‏ كالأشعري، ومن متكلمي الشيعة ويبنون على هذا النزاع ‏:‏ أن ولي اللّه هل يصير عدوا لله وبالعكس ‏؟‏ ومن أحبه الله ورضي عنه‏.‏ هل أبغضه وسخط عليه في وقت ما وبالعكس ‏؟‏ ومن أبغضه اللّه وسخط عليه هل أحبه اللّه ورضى عنه، في وقت ما على القولين ‏؟‏

والتحقيق هو الجمع بين القولين‏.‏ فإن علم اللّه القديم الأزلي وما يتبعه من محبته ورضاه، وبغضه وسخطه، وولايته وعداوته لا يتغير‏.‏ فمن علم اللّه منه أنه يوافى حين موته بالإيمان والتقوى فقد تعلق به محبة اللّه وولايته ورضاه عنه أزلًا وأبدًا، وكذلك من علم اللّه منه أنه يوافى حين موته بالكفر فقد تعلق به بغض اللّه وعداوته، وسخطه أزلًا وأبدًا لكن مع ذلك فإن اللّه تعالى يبغض ما قام بالأول من كفر وفسوق قبل موته‏.‏ وقد يقال‏:‏ إنه يبغضه ويمقته على ذلك، كما ينهاه عن ذلك وهو سبحانه وتعالى يأمر بما فعله الثاني من الإيمان والتقوى، ويحب ما يأمر به ويرضاه، وقد يقال إنه يواليه حينئذ على ذلك‏.‏

والدليل على ذلك‏:‏ اتفاق الأئمة على أن من كان مؤمنًا ثم ارتد، /فإنه لا يحكم بأن إيمانه الأول كان فاسدا، بمنزلة من أفسد الصلاة والصيام والحج قبل الإكمال؛ وإنما يقال كما قال اللّه تعالى‏:‏‏{‏وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏5‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏65‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏88‏]‏ ولو كان فاسدا في نفسه لوجب الحكم بفساد أنكحته المتقدمة،وتحريم ذبائحه، وبطلان إرثه المتقدم، وبطلان عباداته جميعها، حتى لو كان قد حج عن غيره كان حجه باطلًا، ولو صلى مدة بقوم ثم ارتد كان عليهم أن يعيدوا صلاتهم خلفه، ولو شهد أو حكم ثم ارتد لوجب أن تفسد شهادته وحكمه ونحو ذلك‏.‏ وكذلك أيضا الكافر إذا تاب من كفره، لو كان محبوبًا لله وليا له في حال كفره، لوجب أن يقضي بعدم أحكام ذلك الكفر، وهذا كله خلاف ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع‏.‏

والكلام في هذه ‏[‏المسألة‏]‏ نظير الكلام في الأرزاق والآجال وهي أيضا مبنية على ‏[‏قاعدة الصفات الفعلية‏]‏ وهي قاعدة كبيرة‏.‏

وعلى هذا يخرج جواب السائل، فمن قال‏:‏ إن ولي اللّه لا يكون إلا من وافاه حين الموت بالإيمان والتقوى، فالعلم بذلك أصعب عليه وعلى غيره‏.‏ ومن قال‏:‏ قد يكون وليا للّه من كان مؤمنًا تقيًا وإن لم تعلم عاقبته فالعلم به أسهل‏.‏

/ومع هذا يمكن العلم بذلك للولي نفسه ولغيره، ولكنه قليل ولا يجوز لهم القطع على ذلك، فمن ثبتت ولايته بالنص، وإنه من أهل الجنة كالعشرة وغيرهم فعامة أهل السنة يشهدون له بما شهد له به النص‏.‏ وأما من شاع له لسان صدق في الأمة بحيث اتفقت الأمة على الثناء عليه فهل يشهد له بذلك‏؟‏ هذا فيه نزاع بين أهل السنة، والأشبه أن يشهد له بذلك‏.‏ هذا في الأمر العام‏.‏

وأما‏[‏خواص الناس‏]‏ فقد يعلمون عواقب أقوام بما كشف اللّه لهم، لكن هذا ليس ممن يجب التصديق العام به، فإن كثيرًا ممن يظن به أنه حصل له هذا الكشف يكون ظانا في ذلك ظنًا لا يغني من الحق شيئًا، وأهل المكاشفات والمخاطبات يصيبون تارة؛ ويخطئون أخرى؛ كأهل النظر والاستدلال في موارد الاجتهاد؛ ولهذا وجب عليهم جميعهم أن يعتصموا بكتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يزنوا مواجيدهم ومشاهدتهم وآرائهم ومعقولاتهم بكتاب اللّه وسنة رسوله؛ ولا يكتفوا بمجرد ذلك، فإن سيد المحدثين والمخاطبين الملهمين من هذه الأمة هو عمر بن الخطاب؛ وقد كانت تقع له وقائع فيردها عليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ أو صديقه التابع له الآخذ عنه الذي هو أكمل من المحدث الذي يحدثه قلبه عن ربه‏.‏

ولهذا وجب على جميع الخلق اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم /وطاعته في جميع أموره الباطنة والظاهرة، ولو كان أحد يأتيه من اللّه مالا يحتاج إلى عرضه على الكتاب والسنة لكان مستغنيا عن الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض دينه‏.‏

وهذا من أقوال المارقين الذين يظنون أن من الناس من يكون مع الرسول كالخضر مع موسى‏.‏ ومن قال هذا فهو كافر‏.‏

وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏52‏]‏ فقد ضمن اللّه للرسول وللنبي أن ينسخ ما يلقي الشيطان في أمنيته، ولم يضمن ذلك للمحدث، ولهذا كان في الحرف الآخر الذي كان يقرأ به ابن عباس وغيره‏:‏ ‏(‏وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته‏)‏‏.‏

ويحتمل واللّه أعلم ألا يكون هذا الحرف متلوًا، حيث لم يضمن نسخ ما ألقى الشيطان في أمنية المحدث؛ فإن نسخ ما ألقى الشيطان ليس إلا للأنبياء والمرسلين؛ إذ هم معصومون فيما يبلغونه عن اللّه تعالى أن يستقر فيه شيء من إلقاء الشيطان، وغيرهم لا تجب عصمته من ذلك، وإن كان من أولياء اللّه المتقين، فليس من شرط أولياء اللّه المتقين ألا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفورًا لهم؛ بل / ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقًا، بل ولا من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه التوبة‏.‏

وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ َ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏33-35‏]‏ فقد وصفهم اللّه بأنهم هم المتقون‏.‏

و‏[‏المتقون‏]‏ هم أولياء اللّه، ومع هذا فأخبر أنه يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا، وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم والإيمان‏.‏

وإنما يخالف في ذلك الغالية من الرافضة وأشباه الرافضة من الغالية في بعض المشائخ، ومن يعتقدون أنه من الأولياء‏.‏ فالرافضة تزعم أن ‏[‏الأثناعشر‏]‏ معصومون من الخطأ والذنب‏.‏

ويرون هذا من أصول دينهم، والغالية في المشائخ قد يقولون‏:‏ إن الولي محفوظ والنبي معصوم‏.‏ وكثير منهم إن لم يقل ذلك بلسانه؛ فحاله حال من يرى أن الشيخ والولي لا يخطئ ولا يذنب؛ وقد بلغ الغلو بالطائفتين إلى أن يجعلوا بعض من غلوا فيه بمنزلة النبي وأفضل منه، وإن زاد الأمر جعلوا له نوعا من الإلهية، وكل هذا من الضلالات الجاهلية المضاهية للضلالات النصرانية‏.‏

فإن في النصارى من الغلو في المسيح والأحبار والرهبان ما ذمهم اللّه عليه في القرآن؛ وجعل ذلك عبرة لنا؛ لئلا /نسلك، سبيلهم، ولهذا قال سيد ولد آدم ‏:‏‏(‏لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم‏.‏ فإنما أنا عبد فقولوا‏:‏ عبد اللّه؛ ورسوله‏)‏‏.‏

 فصـــل

وأما ‏(‏الفقراء‏)‏ الذين ذكرهم اللّه في كتابه فهم صنفان‏:‏ مستحقوا الصدقات، ومستحقوا الفيء‏.‏

أما مستحقوا الصدقات فقد ذكرهم اللّه في كتابه في قوله‏:‏ ‏{‏إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏271‏]‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏60‏]‏‏.‏

وإذا ذكر في القرآن اسم ‏[‏الفقير‏]‏ وحده، و ‏[‏المسكين‏]‏ وحده ـ كقوله‏:‏ ‏{‏فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏89‏]‏ ـ فهما شيء واحد، وإذا ذكرا جميعًا فهما صنفان‏.‏ والمقصود بهما أهل الحاجة‏.‏ وهم الذين لا يجدون كفايتهم، لا من مسألة ولا من كسب يقدرون عليه، فمن كان كذلك من المسلمين استحق الأخذ من الصدقات المفروضة، والموقوفة والمنذورة، والموصى بها، وبين الفقهاء نزاع في بعض فروع المسألة معروف عند أهل العلم‏.‏

وضد هؤلاء ‏[‏الأغنياء‏]‏ الذين تحرم عليهم الصدقة، ثم هم / ‏[‏نوعان‏]‏‏:‏ نوع تجب عليهم الزكاة، وإن كانت الزكاة تجب على من قد تباح له عند جمهور العلماء ‏.‏

ونوع لا تجب عليه الزكاة‏.‏

وكل منهما قد يكون له فضـل عن نفقاتـه الواجبة، وهـم الذين قـال اللّه فيهـم‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏219‏]‏‏.‏ وقد لا يكون له فضل، وهؤلاء الذين رزقهم قوت وكفاف هم أغنياء باعتبار غناهم عن الناس، وهم فقراء باعتبار أنه ليس لهم فضول يتصدقون بها‏.‏

وإنما يسبق الفقراء الأغنياء إلى الجنة بنصف يوم، لعدم فضول الأموال التي يحاسبون على مخارجها ومصارفها، فمن لم يكن له فضل كان من هؤلاء، وإن لم يكن من أهل الزكاة، ثم أرباب الفضول إن كانوا محسنين في فضول أموالهم، فقد يكونون بعد دخول الجنة أرفع درجة من كثير من الفقراء الذين سبقوهم، كما تقدم أغنياء الأنبياء والصديقين من السابقين وغيرهم على الفقراء الذين دونهم‏.‏ ومن هنا قال الفقراء‏:‏ ‏(‏ذهب أهل الدثور بالأجور‏)‏ وقيل لما ساواهم الأغنياء في العبادات البدنية، وامتازوا عنهم بالعبادات المالية‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء‏}‏ فهذا هو ‏[‏الفقير‏]‏ في عرف الكتاب والسنة‏.‏

/وقد يكون الفقراء سابقين، وقد يكونون مقتصدين، وقد يكونون ظالمي أنفسهم كالأغنياء، وفي كلا الطائفتين ‏:‏المؤمن الصديق، والمنافق الزنديق‏.‏

وأما المستأخرون فـ ‏[‏الفقير‏]‏ في عرفهم عبارة عن السالك إلى اللّه تعالى، كماهو ‏[‏الصوفي‏]‏ في عرفهم أيضًا، ثم منهم من يرجح مسمى ‏[‏الصوفي‏]‏ على مسمى ‏[‏الفقير‏]‏ لأنه عنده الذي قام بالباطن والظاهر ومنهم من يرجح مسمي الفقير؛ لأنه عنده الذي قطع العلائق، ولم يشتغل في الظاهر بغير الأمور الواجبة، وهذه منازعات لفظية اصطلاحية‏.‏

و‏[‏التحقيق‏]‏ أن المراد المحمود بهذين الاسمين، داخل في مسمى الصديق، والولي والصالح، ونحو ذلك من الأسماء التي جاء بها الكتاب والسنة، فمن حيث دخل في الأسماء النبوية، يترتب عليه من الحكم ما جاءت به الرسالة، وأما ما تميز به مما يعده صاحبه فضلًا وليس بفضل، أو مما يوالي عليه صاحبه غيره، ونحو ذلك من الأمور التي يترتب عليها زيادة الدرجة في الدين والدنيا، فهي أمور مهدرة في الشريعة إلا إذا جعلت من المباحات كالصناعات، فهذا لا بأس به، بشرط ألا يعتقد أن تلك المباحات من الأمور المستحبات‏.‏ وإما ما يقترن بذلك من الأمور المكروهة في دين اللّه‏:‏ من أنواع البدع والفجور‏.‏ فيجب النهي عنه كما جاءت به الشريعة‏.‏

/ وسئل‏:‏ عن قوم يقولون‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى باب ‏[‏أهل الصفة‏]‏ فاستأذن، فقالوا‏:‏ من أنت‏؟‏ قال‏:‏ أنا محمد، قالوا‏:‏ ماله عندنا موضع الذي يقول‏:‏ أنا‏.‏ فرجع ثم استأذن ثانية، وقال‏:‏ أنا محمد مسكين، فأذنوا له‏.‏ فهل يجوز التكلم بهذا‏.‏ أم هو كفر‏؟‏

فأجاب‏:‏

هذا الكلام من أعظم الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ‏[‏أهل الصفة‏]‏ فإن ‏[‏أهل الصفة‏]‏ لم يكن لهم مكان يستأذن عليهم فيه، إنما كانت الصفة في شمالي مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، يأوى إليها من لا أهل له من المؤمنين، ولم يكن يقيم بها ناس معينون، بل يذهب قوم ويجىء آخرون، ولم يكن ‏[‏أهل الصفة‏]‏ خيار الصحابة؛ بل كانوا من جملة الصحابة؛ ولم يكن أحد من الصحابة يستخف بحرمة النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر‏.‏ ومن فعل ذلك فهو كافر ومن اعتقد هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل‏.‏ واللّه أعلم‏.‏